- محمد المرتضى حامد -
في الحفلات السودانية، أيا كانت المناسبة والمكان، في البيت في الشارع في الصاله والمسرح، لازم يكون في شخص ظريف متماهي وغرقان حتى الجبين مع الغناء والموسيقى لدرجة انجذاب ينفصل فيها تماما عن محيطه فيُعبِّر عن حالة (الغرق) تلك بلغة جسد خاصة به كما لو أنه وحده في الكوكب تحت راية ما هماني شي، بعضهم يقوده الطرب المحض تلقائيا تجاه الحلبة لايهمه في ذلك ما إذا كان مدعوا أم غير ذلك أو كان مُجيدا محترفا أو هاويا. بالطبع في نوع تُحرِّكه كلمات الأغنية إذا ما صادفت في نفسه هوى أو جرحا تاريخيا فيكتفي بالصمت واقفا هنااااك ورا في خط ميه بعيدا عن الأنظار.
تلك النماذج الجميلة لا تخلو منها مدينة أو حي ولها شعبيتها ومشجعيها فالواحد منهم يلج دائرة الضوء بمجرد حضوره، بل يخطف الأضواء عن المغني ويشعلل الحفل، والأسماء كثيرة في هذا المجال، وخلافا لبعض الظنون، ليس بالضرورة أن يكون زولنا مِسنسِن فمعظم الناس ديل صادقين جدا وعفويين في تصرفاتهم، وهذا الصدق ينعكس بوضوح في مشاركاتهم وأدائهم، تلقى الواحد طروب كدا (لوجه الله) حين تستفزه أغنية أو يكون وصل صفحة ٣٦.
حكى لي صديق أن الشاب (علوب)، الذي كان راقصا من طراز فريد ومن الجماعة المعنيين، خرج مغادرا مستاءا والحفل لسه في بداياته فسألوه: ويييين ياااا ؟ ياخ نحن جايين عشانك مخصوص، فكان رده: بالله فِكّونا، دا فنان أشتر وزمنو فارِق بيبوِّظ رُكبنا ساي.
شفافيه!
مرات الغرق الزي دا سببه علاقة لا يراها العامة لكن مصدرها كلام القصيدة نفسه، ألم شديد، والبعض كان في حالة حب وليس بالضروره أن تكون هناك حبيبة في الواقع نسجا على نول قلبي عاشق ودربي خالٍ من حبيب، وبالطبع كان الشعراء يدركون مواطن الوجع في الأمة وما تتطلبه المرحلة فيوظفوها في أشعارهم، لذا كانت اللغة الشعريه السائدة ممعنة في تراجيديتها تفتح ممرات آمنة للحمى والرقص والصمت والهذيان أو التجاني الماحي.
كانت الحفلات لا تخلو من الناس اللطيفين ديل وكلما ازداد التفاعل معهم والتصفيق كلما ارتفعت حرارة الأداء والبهجة، ففي أيامنا، قبل زمن الصالات البايخه، كان بعض المتابعين يرتقون الحيط للمتابعة مطلقين صيحات الإستحسان والتصفيق لعوض ترافولتا ويطلبوا الإستزادة بالذات في حفلات العماليق الذين يصبوا البنزين على الحفل ويقدحوا كبريت ماهماك عذابنا فيلتهب المكان. بالطبع كان بعض أنصاف المغنين الذين لا يحسنوا الإختيار، ففي حفل زواج يلطشوا من شرحبيل الليل الهادي وطوالي يُلحِقوها ب (ياما بُكرا تندم وانا حالك بشوفو).
المهم في ذلك العصر الرشيدي سادت في الحفلات (الليله ديك) وانفجرت (حان الزفاف) و(ما كنت عارف) كصدى ارتجاعي لما سبقهن من مراثي الفراق والهجر وإدخال الريده غرفة الإنعاش بتصنيفها، ادعاءا، أنها أقوى من قول العواذل واسمى من كلمة وشاية، وكان ذلك جميعه ينعكس على سلوك أصحابنا إياهم في الحفلات.
هاشم ميرغني، على سبيل المثال، كان أيقونة عند المضروبين بما قدم من أغانٍ يتراوح أثرها بين 75 - 100 درجة على مقياس الألم VAS لدى جماعتنا بحيث لا يمكنك الإستماع إليه وانت واقف، (عشان اهلك بخليكِ) كان أثرها في جيلنا لا يقل عن تشرنوبل بأي حال، أوكرانيا دائما حاضرة في المشهد، وكلما صافحت مسامعي تلك الأغنيات تذكرت أسماء (مشاركين) بالصمت الأيجابي كتفاعل حقيقي معها، طبعا بعض العارفين بخبايا الأمور كانوا يواسون صديقهم في نكبته بمثلما فعل هاشم صديق برائعته (النهاية) إنابة عن نديمه مكي سناده بعدما حصل ليهو ريجيكشن من الروس، تاااخ، فقام هاشم بتحريك الناتو الذي اكتفى بالقلق والإدانة والقصيدة وفي النهاية قامت الشمس لمَّت غروبا وهاجرت والمتغطي بأمريكا عريان.
أها، أغنيات هاشم ميرغني بالذات كانت ترانيما وصلوات للقوم في كل الحفلات، غريبه نعيش زي الأغراب وما نتهنى بالريده، وهنا تبدأ حالة الطوارئ حتى تصل اللون البرتقالي. كان بحق أعظم من يستمطر غدد الدمع حتى آخر مليمول، وكلما نشتل الأفراح تجي الأقدار تمد إيدا، زي البسوي فيهو الإنقلابي هسه.
كان نعي قصة الحب يبدأ من (الرميه):
خلاص ارتاح يا قليبي ارتااااااح..
إرتاح من النسانا وما طرانا وقصد أذانا وملانا جراااااح..
إنت ارتاح..
إرتاح من تلة إيدو ومن لفتة جيدو ومن أملو الراح..
إنت ارتاح..
آااح ح ح ح.
أهو دا الجنن عبدالقادر.
كان لكل صريع عشقٍ حائط مبكاه الخاص يزوره عنده الرفاق وكان أشهرهم وقتها، قيس زمانه، صديقنا وحبيبنا (ابن الملوح)، كان شابا وسيما معطرا لا يُجارى في أسلوب تزييه ولطفه ومهاراته الفردية العالية المدعومة بفنون الإيروبيكس غير هيّاب لركوب أمواج الغرام وبطل في الرَكمَجه، كان يُشجي مسامع (الكتاش) كما في (كلمات) ماجده الرومي فيذّرُ (في سمعها شيئا يلذ لها)، كان وسيما كوضاح اليمن، مثقفا كسارتر، مفوّها كمانديلا، ورومانسيا تخطى الشابي هيمسيلف، سوبرهاتريك بنزيما ود اللزينا، يا حليلو، شارلستون ضاغط فوق و28 سم تحت وقميص (مخنصر slim fit مع شعر كيرلي و (خيط) أسود يطوِّق عنقه بعقيقة أهدته إياها ال case كحرز من (العين)، فعيون ظباء أم در تفوق ال stinger المحمول على الكتف، الزمن داك ما كان في شلاّبات فثمة code of ethics لا يسمح بذلك لكنه الحذر، ترتسم على محياه ابتسامة ثقة مُكهرِبة تضيء محيطه وتحرك (الأشياء) عن بعد.
كان يعرف من دار اتحاد الفنانين بالملازمين جدول الحفلات أين ومتى يغني إبن الباديه فيطل في الحادية عشرة تماما بتوقيت الإسكيز مع ثلة أصحاب حواريين جلهم لهم مشاويرهم في عتبات التبتل المقدسة وصلوات في محاريب الغرام ومعابد الهيام، دالاي لاما زمانه، وعندما يصل ابن الباديه منطقة أنا أنا أنا برضى بحكمك َعليـــَّا بمعامل إنكسار refractive index قدره 1.5، يقف صاحبنا أمام ابن البادية صامتا يؤدي طقوسه كبوذا لا يحول بينهما إلا المايك وألف أهلا يا دموع.
الحواريون يراقبون عن بعد في خشوع، فهو يؤدي الصلوات نيابة عنهم كما العشاء الأخير، هو ابن الملوح، قائد مشير لجماعة لها شأنها في العشق، يتقمص دور مارلون براندو في فيلم (القيامة الآن) وأحيانا جيم جونز بتاع معبد الشعوب وفاجعة الإنتحار الجماعي المعروفة. كان ينتحب في صمت ضاج ويغادر الصيوان (المَحفَل) قُبيل الصبح بما يكفي لركعتي النافلة، كانت الحفلات تقام في صيوانات مقدسة، الله يغيز الصالات والساوندسيستم، بيّخوا اللمه مع الحسان ورا الخيمه أو في ركنها وجرّدوا القلب من الجُمَل المفيده والأسئلة المسهدة زي يعني كيفن ما بريدك؟ وضاعت اللهفة والشوق وبقي العذاب فأصبحت الحفلات مدعاة للضجر.
فقدت (الأشياء) ألقها وجمالها وعبقها وبهرجها و (الحِتت اتباعت) وولَى الحب والغرام فقرر ابن الملوح الهجرة لأوروبا عساه يضمد جراحاته مستبدلا ود الرضي بجون كيتس والبلابل بال Three Degrees وبعدما (انحنى الخاطر من ثقل الأشواق) إتصل بصديق مشترك بعد غيبة مؤكدا أنه راجع أم در، مضيفا أنه سيعود لحفلاته وطقوسه قائلا: مش الرومانسيه دي، ح أفتشا أفتشا لامن أجيبا ليكم،
ضُر كدا.
